15 أبريل 2025

Textual description of firstImageUrl

جمعية الفجر الذهبي: هل كانت طريقا إلى النور أم بوابة إلى الظلام ؟

إعداد : كمال غزال

في قلب لندن الفيكتورية، حيث اجتمع الأدب والعلم والخوف من المجهول، وُلد كيان لم يكن له مثيل في عصره؛ كيان لم يرفع سيفا، بل فتح أبواباً نحو الغيب، وأشعل شغفاً بالاستنارة الروحية، لا بالحقائق العلمية.

إنها جمعية الفجر الذهبي، المنظمة التي زعزعت الحدود بين الواقع والأسطورة، بين الروح والمادة، وبين الإنسان وما يُخفيه الظل في داخله.

لم تكن الفجر الذهبي طائفة صاخبة ولا محفلاً سياسياً، بل مشروعاً باطنياً جريئاً، استدرج الأرواح، وعلّم أتباعه كيف يُخاطبون الكيانات النورانية، ويستحضرون أسرار الخلق من رماد التقاليد القديمة.

 وعلى مدى سنوات، باتت الطقوس، والأسماء السرية، والدوائر السحرية، لغة خفية يتحدث بها من تذوّقوا المعرفة الممنوعة. 

في هذا المقال، نكشف الستار عن واحدة من أكثر الحركات الغامضة تأثيراً في العالم الغربي، ونغوص في تفاصيلها، من أعماق استحضار الأرواح إلى قمة التنوير... فهل أنت مستعد لعبور العتبة ؟


النشأة

تأسست الجمعية عام 1888 في لندن على يد ويليام ويستكوت، ماكغريغور ماثرز، وويليام وودمان، وجميعهم كانوا أعضاء في الماسونية. استندت الجمعية إلى ما يُعرف بالمخطوطات المشفرة، وهي وثائق غامضة زُعم أنها تحتوي على رموز وتعاليم سرية مستوحاة من مصادر متنوعة وأقدم مثل الكابالا اليهودية، السحر المصري القديم، التصوف المسيحي، والخيمياء. هذه الوثائق قادت المؤسسين إلى تصميم نظام هرمي معقد، يمنح كل عضو رتبة محددة تبدأ من "الناشيء" وتنتهي بـ"الماجوس"، حيث يتلقى كل عضو تعاليم باطنية تناسب درجته.


مدرسة روحانية
ما كانت الجمعية تروج له لم يكن مجرد أداء طقوس مبهرة، بل مشروعاً روحانياً متكاملاً. لقد سعت إلى تحقيق الذات من خلال رحلة باطنية داخلية، شبيهة بالتجربة الصوفية، يكون فيها الإنسان في مواجهة نفسه، رغباته، وظله. كما اهتمت بالوصول إلى نوع من الاستنارة النورانية عبر مراحل متقدمة من التدريب، باستخدام التأمل، الرموز، طقوس التطهير، وتلاوة أسماء مقدسة من الكابالا. وكان للتاروت مكانة مهمة، لا كأداة للتنجيم، بل كمرآة لفهم النفس، ووسيلة للكشف عن الباطن.

طقوس استحضار الأرواح
لكن أكثر ما ميّز الجمعية، وجعلها موضوع ساحرة حتى يومنا هذا، هو طقوس استحضار الأرواح والكيانات الروحية العليا. في غرف مظلمة معطرة بالبخور، وتحت إنارة الشموع الدوارة، كان الأعضاء يرسمون الدوائر السحرية ويستدعون الأرواح عبر أسماء ملائكية، بلغات غامضة مستوحاة من النصوص الإينوشية والقبالية. لم يكن الغرض من هذه الطقوس مجرد اللعب مع الماورائيات، بل محاولة حقيقية لخلق اتصال مع كائنات يُعتقد أنها تسبق البشر في الوعي والمعرفة.

- واحدة من أشهر هذه التجارب كانت تجربة التواصل مع "الملاك الحارس الأعلى"، الكيان الذي يمثل - بحسب معتقدات الجمعية -  مرآة الذات العليا في كل إنسان. للوصول إلى هذا الكائن، كان الممارس يدخل في عزلة مطولة، يصوم، يتأمل، يقرأ تعاويذ نورانية، ويتطهر من كل شوائب الجسد والعقل.


كان أليستر كراولي أحد أشهر أعضاء الجمعية وأكثرهم جدلاً، أجرى هذا الطقس في صحراء الجزائر، وزعم أنه تواصل فعلياً مع ملاكه الحارس الذي ظهر له باسم  عيواس Aiwass، واعتبره مصدر الإلهام لكتابه الشهير  "كتاب القانون" The Book of the Law. لكن كثيرين اعتبروا أن الكائن الذي ظهر له لم يكن ملاكاً بالمعنى التقليدي، بل شيئًا آخر، ربما أقل نورانية مما زعم.

- لم تقتصر الطقوس على استحضار الملاك الحارس، بل شملت أيضاً محاولات للتواصل مع أرواح الفلاسفة، كائنات الطبيعة، وحتى أرواح الموتى. هناك روايات لأعضاء فقدوا مؤقتاً حواسهم بعد بعض الطقوس، أو شاهدوا أحلامًا مكررة تحمل رموزاً غامضة. إحدى الحالات المثيرة للجدل كانت تجربة استحضار روح إيزيس، حيث دخل الممارس في حالة من النشوة الروحية، لكنه فقد النطق لعدة أيام بعد ذلك.


أعضاء الجمعية : شعراء وفنانون ومفكرون
الجمعية لم تكن معزولة عن محيطها الثقافي والسياسي، فقد ضمت في صفوفها شعراء ومفكرين وفنانين مثل ويليام بتلر ييتس، الذي انعكست الرمزية الروحية للجمعية على أشعاره، وكذلك الممثلة والمفكرة فلورنس فار، التي أدخلت البُعد المسرحي إلى الطقوس الباطنية. حتى الأدب الحديث استلهم الكثير من رمزية الجمعية، كما في رواية "الساحر" لجون فاولز، وأعمال تولكين، بل وحتى في بعض جوانب الثقافة الشعبية مثل أفلام هاري بوتر.

رغم أن الجمعية لم تُعلن كحركة سياسية، إلا أن كثيراً من أعضائها كانوا من النبلاء أو من ذوي العلاقات الوثيقة بمحافل ماسونية والصليب وردي، ما فتح المجال للتكهنات حول تأثيرها غير المباشر في بعض القرارات أو التيارات الفكرية في بريطانيا وأوروبا.

الإنهيار
مثلها مثل كل الكيانات السرية، بدأت الجمعية تتفكك بفعل الصراعات الداخلية، وخاصة بين كراولي وماثرز، ثم انشق أعضاء المؤثرون وأسّسوا جماعات فرعية مثل ستيلا ماتوتينا  Stella Matutina و ألفا وأوميغا Alpha et Omega. 

وبحلول عام 1903، بدأ الضعف يدبّ في جسد الجمعية، وإن لم يمت إرثها تماماً.

إرثها المستمر
لقد أثّرت جمعية الفجر الذهبي في الحركات الصوفية الحديثة، وكانت منبعاً غنياً لحركات العصر الجديد New Age، وأسهمت في تشكيل الوعي الباطني الغربي كما نعرفه اليوم. وكتبها لا تزال تُدرّس، وطقوسها تُمارس، وأفكارها تسكن خيال آلاف الباحثين عن الحقيقة في الظلال.

هل انتهى السحر فعلاً ؟
جمعية الفجرالذهبي لم تكن مجرد لعبة سحرية للنخبة الفيكتورية، بل كانت مختبراً روحياً حاول الجمع بين العقل والباطن، بين العلم والأسطورة، بين الرغبة في السيطرة على العالم الخارجي، وبين الغوص في أعماق الذات البشرية. ربما اختفت ككيان، لكن سؤالها الأساسي لا يزال حياً:

"هل يمكن للإنسان أن يفتح أبواب الغيب… دون أن يغرق في الظلام؟ "


0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ