![]() |
إعداد : كمال غزال |
بينما كان البيانو في القرن التاسع عشر يُعتبر رمزًا للرقيّ والسموّ الفني في أوروبا، لمع اسم فريدريك شوبان كأحد أعظم مَن طوّع هذا الآلة لتُعبّر عن أعمق خلجات النفس البشرية. وُلد في بولندا عام 1810، وتوفي شاباً في باريس عام 1849، عن عمرٍ لم يتجاوز 39 عامًا، بعد صراعٍ مرير مع داء السل.
رغم قصر عمره، فقد ترك شوبان أثراً خالداً في الموسيقى الكلاسيكية، خاصة في المقام الرومانسي، حيث مزج بين التقنية البارعة والإحساس العاطفي الحميم، كأن كل نغمة تهمس بسرّ من روحه المضطربة.
لقاء مع شبح
ما يجعل سيرة شوبان تتجاوز حدود الفن إلى فضاءات الغموض، هو ما رُوي عن تجاربه الغريبة مع ما ظنّه تواصلاً مع عالم الأرواح.
في إحدى ليالي المرض، حين كان طريح الفراش يتأرجح بين الحمى والسعال، أخبر أحد أصدقائه المقرّبين عن حادثة لا تُنسى:
رأى شبحاً يقف بجانب البيانو، يوجّهه نحو عزف لحن لم يعرفه من قبل.
لم يصف التجربة على أنها حلم عابر، بل على العكس، أكّد أنه شعر بوجود "كائن غير مرئي" يمسك بأنامله ويوجّهها، وقال عبارته الشهيرة:
" لم أكن أنا من عزف تلك الألحان... كانت تأتي من مكان آخر، كما لو أن أحدهم كان يمسك بيدي."
لم تكن هذه الحادثة الوحيدة، بل تكررت لديه لحظات وصفها بـ"الإلهام الخارجي"، خاصة أثناء اشتداد المرض، حيث تحدث عن رؤى لأشخاص متوفين أو همسات غامضة تدفعه لتأليف مقطوعات لم يكن قد خطّط لها مسبقاً.
فهل كان هذا الإلهام ضرباً من العبقرية ؟ أم كان حقًا تواصلاً مع عالم آخر ؟
فرضيات التفسير
يمكن النظر إلى هذه التجارب من زوايا متعددة، تجمع بين التحليل العلمي والطرح الماورائي:
الهلوسة الناتجة عن الحمى والسل
من المعروف أن داء السل، خاصة في مراحله الأخيرة، يسبب نوبات حمى حادة قد تؤدي إلى هلوسات سمعية وبصرية. ربما رأى شوبان "الشبح" في خضم نوبة حمى، وفسّر التجربة لاحقًا كتواصل روحي.
اللاوعي العبقري
يرى بعض الباحثين أن حالات الإبداع المرتفع تنبع من العقل الباطن، وتُستشعر وكأنها "إيحاء خارجي". لحظات صفاء فكري أو شرود، تتحوّل فيها الذات إلى مجرّد وسيلة يتدفّق من خلالها الفن.
التأثر الروحاني الشخصي
شوبان كان شخصية عاطفية، حساسة، وميله إلى الميلودراما واضح في مقطوعاته. قد تكون مشاعره العميقة جعلته يرى في لحظات الإبداع نوعًا من الحضور الروحي.
المنظور الروحاني الصافي
هناك من يؤمن أن الفنانين الكبار يمتلكون نوعاً من الاتصال الخفي مع طاقات أو كيانات غير مرئية، تُترجم عبرهم إلى إبداع فني، دون أن يكون لهم إدراك كامل بالمصدر.
السيكوغرافيا: الكتابة بإملاء الأرواح
وهنا لا بد من الإشارة إلى مفهوم السيكوغرافيا (Psychography)، الذي شاع في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهو مصطلح يُطلق على عملية الكتابة أو الإبداع الفني المزعوم أن مصدره روحٌ ما تُملِي الأفكار على وسيط بشري.
استخدم هذا المصطلح في جلسات تحضير الأرواح، حيث يدّعي بعض "الوسطاء" أن أرواحاً معينة تكتب على أيديهم، دون تدخل منهم.
وعلى الرغم من أن السيكوغرافيا ارتبطت غالباً بالكتابة، فإن البعض وسّع المفهوم ليشمل أنواعاً أخرى من التعبير، مثل الرسم والموسيقى.
تجربة شوبان كما رواها بنفسه تتقاطع مع هذا المفهوم: إحساس بكيان خارجي يُملي عليه ما يجب عزفه، وأنه ليس إلا أداة تمرّ من خلالها هذه الرسائل.
فهل كان شوبان، دون أن يدري، أول من مارس السيكوغرافيا الموسيقية ؟
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .