![]() |
إعداد : كمال غزال |
في ليلة حالكة، بينما كان عبيد بن الأبرص يجوب الصحراء، سمع صوتًا غامضًا ينشد شعراً لم يسمعه من قبل :
"تمشَّت إلى الحيّ الغواني بجَسْرةٍ
كأنّ على أعطافها سَنَجاتِ
فقلتُ لها يا أمَّ سهلٍ تَجانَبي
فقالتْ أُعيذُك أن تُلاقي شُؤمَ ذاتي"
لم يرَ أحداً، لكنه شعر أن هذه الكلمات تحوي رسالة غامضة… تحذير لم يفهمه. هزّ رأسه وأكمل طريقه، غير مدرك أن هذا النذير سيتحقق يوماً ما.
تفسير الرسالة الغامضة
هذه الأبيات تُمثّل مشهداً رمزياً شاعرياً، ينقل تحذيراً ماورائياً مبطناً بالمجاز:
"تمشَّت إلى الحيّ الغواني بجَسْرةٍ": الجني يصوّر كائناً غريباً (ربما امرأة رمزية، أو تجسيداً للموت أو الشؤم) تمشي بين الناس بقوة وثقة.
"كأنّ على أعطافها سَنَجاتِ": السنجات هي الأجراس، وهي إشارة صوتية، توحي بأن خطواتها تُسمع كتحذير، تمامًا كدقات المصير.
"فقلتُ لها يا أمَّ سهلٍ تَجانَبي": يطلب منها أن تبتعد عنه، أي أنه يشعر بالخطر المحدق.
"فقالتْ أُعيذُك أن تُلاقي شُؤمَ ذاتي": هنا قمة التحذير، فهي تنبئه بأن مصيره شؤم إن اقترب منها، وكأنها تعرف ما سيقع له لاحقاً.
تبدو هذه الكلمات وكأنها نبوءة، أُرسلت للشاعر من عالمٍ غامض، لكنه تجاهلها، كما يتجاهل الكثيرون الإشارات الخفية في حياتهم.
المصير المحتوم
مرت سنوات، وذات يوم دخل عبيد بن الأبرص مجلس الملك النعمان بن المنذر، حاكم مملكة الحيرة، والتي كانت تابعة للإمبراطورية الفارسية، دون أن يدري أنه دخل في "يوم البؤس". كان النعمان قد سنّ تقليداً غريباً، يقضي بأن يكرم من يلقاه في "يوم النعيم"، ويقتل أول من يلقاه في "يوم البؤس".
وكان عبيد ذلك الزائر المشؤوم. وحين أدرك الأمر، حاول أن ينجو بشعره، فأنشد:
ألا إنّما الدنيا غضارة أيكةٍ
إذا اخضرّ منها جانبٌ جفّ جانبُ
بهذه الأبيات، يُذكّر عبيد الملك بتقلّب الدنيا، وجمالها الزائل، وعاقبة الظلم. لكنه لم يلقَ سوى الصمت، قبل أن يُؤمر بإعدامه.
فطُرح عبيد تحت أقدام الفيل الملكي، ليلقى مصيره المروّع.
نبوءة تحققت ؟ أم مصادفة مأساوية ؟
حينها فقط، تردد في أذهان من سمع القصة، تحذير الجنيّ الذي سمعه عبيد قبل سنوات :
"أُعيذُك أن تُلاقي شُؤمَ ذاتي"
هل كان الجنيّ يحذره فعلاً ؟ هل كانت الصحراء في تلك الليلة بوابةً إلى قدرٍ كُتب عليه ؟
تدور أحداث هذه القصة في القرن السادس الميلادي، في قلب العصر الجاهلي، حين كانت الأساطير، والشعر، والنبوءات، تُمزج بالحياة اليومية. قصص مثل هذه تكشف مدى إيمان العرب القدامى بالرموز والإشارات، وبأن الشعر ليس مجرد كلام، بل صوت من أعماق الغيب.
في قصة عبيد بن الأبرص، نقف أمام مفترق بين الأسطورة والحقيقة، بين القدر والاختيار، ونتساءل:
هل يجري تحذيرنا أحياناً من مستقبلٍ لا نفهمه إلا بعد فوات الأوان ؟ أم أن كل شيء كان مجرد مصادفة مأساوية ؟
إقرأ أيضاً ...
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .