![]() |
إعداد : كمال غزال |
في زوايا التاريخ المصري القديم، المملوء بالرموز المقدسة والنقوش الغامضة، تظهر وثيقة غير معروفة للكثيرين، لكنها تحوّلت إلى محور جدل عالمي في أوساط المهتمين بالظواهر الجوية الغريبة. إنها ما يُعرف بـبردية تولي، والتي يدّعي البعض أنها تسجّل أول حادثة لرؤية أطباق طائرة في السماء، حدثت قبل أكثر من 3000 عام، خلال حكم الفرعون تحتمس الثالث، أحد أبرز ملوك الدولة الحديثة.
فما هي هذه البردية ؟ ومن اكتشفها ؟ وهل هي حقاً دليل تاريخي على زيارة كيانات فضائية لمصر القديمة ؟ أم أنها مجرّد سوء فهم لنص ديني أو ظاهرة فلكية طبيعية ؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في السطور التالية.
ما هي بردية تولي ؟
بردية تولي هي وثيقة منسوبة إلى العصر الفرعوني، وتحديدًا إلى العام الثاني والعشرين من حكم تحتمس الثالث (نحو 1480 ق.م)، وتتناول حادثة غريبة شهدت فيها سماء مصر ظهور ما وصفه النص بـ"دوائر نارية" تتحرك بسرعة، وتبعث ضوءًا أقوى من ضوء الشمس، وتملأ السماء في استعراض مخيف أربك الجنود والكهنة.
الوثيقة لم تُكتشف ضمن الحفريات الرسمية أو في أحد المتاحف المعروفة، بل عُرفت عن طريق رجل يُدعى ألبرتو تولي Alberto Tulli، وهو مدير سابق للمتحف المصري في الفاتيكان. أثناء زيارته إلى القاهرة عام 1933، زعم تولي أنه شاهد هذه البردية ضمن مجموعة مقتنيات أحد تجار الآثار في سوق خان الخليلي، لكنه لم يتمكن من شرائها، فاكتفى بنسخها يدوياً.
لاحقاً، في عام 1953، أعاد الباحث الإيطالي بوريس دي راشوِلتز Boris de Rachewiltz - الظاهر في الصورة - دراسة هذه النسخة المنسوخة، وقام بترجمتها من اللغة الهيراطيقية - وهي شكل مبسط من الكتابة الهيروغليفية – إلى الإنجليزية . ونُشرت الترجمة لأول مرة في مجلة Doubtf (عدد 41)، التي كان يديرها الباحث الأمريكي في الظواهر الخارقة إيفان ساندرسون.
النص كما تُرجم من البردية (بتصرف):
" في العام الثاني والعشرين، في الشهر الثالث من فصل الشتاء، في الساعة السادسة مساءً، ظهرت في السماء دوائر نارية… لم يكن لها رأس، وكان فمها ينبعث منه رائحة غريبة. قلوب الجنود والملك امتلأت بالذهول والخوف. ثم ظهرت بأعداد كبيرة، أكثر من أي وقت مضى، مضيئة في السماء... كانت الأجسام تلمع أكثر من ضوء الشمس، وتمتد إلى أقاصي السماء. بعد ذلك، صعدت نحو الأعلى واختفت في الأفق السماوي. "
هذا النص، وإن جاء مختصراً ومترجماً بشكل حر، أثار موجة من الاهتمام العالمي، لأنه يتطابق في الوصف مع العديد من مشاهدات الأطباق الطائرة (UFOs) الحديثة، من حيث الشكل الدائري، الإضاءة الشديدة، والمناورات الجوية غير المألوفة.
أين هي الآن ؟ ولماذا الجدل ؟
هنا تبدأ الشكوك. فالنسخة الأصلية من بردية تولي غير موجودة في أي متحف، ولا حتى ضمن مقتنيات الفاتيكان الرسمية. ما لدينا فقط هو نسخة منسوخة بخط اليد، زعم تولي أنه اطلع عليها، ثم نُقلت شفهياً وترجمها باحثون لاحقون.
كما أن علماء المصريات الكبار مثل واليس بدج أو زاهي حواس لم يعترفوا بها، ولم تُذكر في أي مرجع أكاديمي مصري رسمي. بل يرى بعضهم أنها إما خدعة حديثة أُلفت لتعزيز فرضيات "الفضائيين القدماء" Ancient Aliens ، أو أنها سوء تفسير فلكي أو ديني يصف ظواهر طبيعية مثل الشهب أو المذنبات.
هل هي هيروغليفية أم هيراطيقية ؟
البردية - بحسب ما نُقل - كُتبت بالخط الهيراطيقي، وهو نسخة مبسطة وسريعة من الهيروغليفية، استخدمها الكهنة والكتبة في الحياة اليومية وعلى أوراق البردي، خلافاً للهيروغليفية التي استُخدمت في النقوش الرسمية والمعابد. هذا يعني أن البردية – لو كانت حقيقية – يمكن أن تكون قد دُوّنت لأغراض تسجيلية أو مراقبة سماوية، لا دينية رمزية فقط.
تفسيرات بديلة محتملة
1- ظاهرة فلكية
يرى بعض الباحثين أن ما سُجّل في البردية قد يكون مرتبطاً بأمطار نيزكية أو عبور مذنب في السماء، وهي ظواهر كانت تبعث الخوف في نفوس القدماء، وغالبًا ما فُسّرت على أنها رسائل من الآلهة.
2- رمز ديني
من المحتمل أن "الدوائر النارية" ترمز إلى الشمس أو الأرواح السماوية في الديانة المصرية القديمة، حيث كثيراً ما ارتبطت الكائنات الإلهية بالضوء والنار.
3- أسطورة معاصرة
هناك من يعتبر أن بردية تولي اختُرعت في العصر الحديث لتعزيز فرضية أن الفراعنة كانوا على اتصال بكائنات من خارج الأرض وهي النظرية التي روج لها إيريك فون دانيكن في كتابه الشهير مركبات الآلهة.
هل تستحق البردية كل هذا الاهتمام ؟
من منظور علم الآثار، لا. فغياب النسخة الأصلية، وانعدام التوثيق الأثري الرسمي، يجعل من المستحيل اعتماد البردية كمرجع علمي موثوق.
أما من منظور الثقافة والبحث الماورائي فنعم، فبردية تولي تمثل حلقة رمزية مهمة في ربط التاريخ الفرعوني القديم بعالم الظواهر الجوية الغامضة. إنها تمثل جسراً بين الميثولوجيا والفضول العلمي الحديث، وتُظهر كيف أن البشر منذ آلاف السنين ظلوا يحدقون في السماء بحثاً عن إجابات.
وفي الختام بردية ألبرتو تولي قد تكون حقيقية، وقد تكون خدعة بارعة ، لكنها في الحالتين، فتحت باباً لنقاشات أوسع حول العلاقة بين الحضارات القديمة والظواهر السماوية غير المفسرة. وبين التشكيك والتصديق، تبقى هذه البردية جزءاً من ملف "اللامعلوم" الذي لا يزال ينتظر من يفك شفراته.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .