![]() |
إعداد : كمال غزال |
هل يُعقل أن يُعذَّب الإنسان في قبره قبل أن يُحاسب ؟ وهل يعي الميت ما يحدث له ؟ وهل يمر الزمن عليه أصلاً ؟
تُعد مسألة "عذاب القبر" أو "البرزخ" واحدة من أكثر المعتقدات الإسلامية إثارةً للجدل بين مؤمنين به يرونه جزءاً أصيلاً من العقيدة، ومنكرين له يشككون في أصله ومضمونه بناءً على قراءة عقلانية للنصوص، نستعرض في هذا المقال كلاً من الرأيين.
تنويه : هذا المقال لا يتبنى موقفاً عقدياً، بل يُقدّم قراءة تجمع بين التصور التقليدي للمعتقد، والرؤية النقدية العقلانية التي أثارتها تيارات فكرية عدة من بينها المعتزلة، والقرآنيون، ومفكرون معاصرون.
أ) رأي المؤمنين بالمعتقد : عذاب القبر كحقيقة إيمانية
في الرؤية الإسلامية التقليدية، وخاصة في المذهب السني، يُعد عذاب القبر من الثوابت العقدية. ويُؤمن بأن البرزخ هو المرحلة الانتقالية بين الموت ويوم القيامة، وفيها تبدأ أولى مراحل الحساب، حيث يُسأل الإنسان عن عقيدته وأعماله، ويُجزى بالنعيم أو يُعاقب بالعذاب بحسب حاله.
أهم الأسس التي يستند إليها هذا التصور :
- القرآن الكريم: يستدل العلماء بعدة آيات فسّرت بأنها تشير إلى العذاب البرزخي، مثل قوله تعالى عن آل فرعون:
"النار يعرضون عليها غدوًا وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" (غافر: 46)، والتي تفيد – في نظرهم – استمرار عذابهم قبل يوم القيامة.
- الحديث النبوي: وردت أحاديث عديدة متواترة عن النبي ﷺ تصف حياة القبر، منها: " القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار".
- حديث شريف عن عذاب صاحب القبرين بسبب النميمة وترك الاستبراء من البول.
- الأدعية المتكررة بالاستعاذة من عذاب القبر، في الخطب الدينية الجمعة ، مما يشير إلى خطورته.
- عقيدة السؤال بعد الموت: في المرويات، يُرسل الله ملكين (منكر ونكير) يسألان الميت ثلاثة أسئلة: من ربك ؟ ما دينك ؟ ومن نبيك ؟ فإن ثبت بالإجابة، عاش في نعيم القبر، وإن لم يُجب صواباً، نال من العذاب البرزخي.
- يُروى في الأحاديث النبوية أن القبر يتّسع أو يضيق بحسب حال الميت عند الله؛ فإن كان صالحاً، فُسح له في قبره مدّ بصره، وإن كان غير ذلك، ضُيّق عليه حتى تختلف أضلاعه. واعتبر العلماء هذا التوسيع أو التضييق حالة برزخية لا تخضع لقوانين الفيزياء، بل هي جزء من العالم الغيبي الذي يتفاعل فيه الجسد والروح بطريقة لا نُدركها بحواسنا. وقد فسّر البعض "توسيع القبر" بأنه إشارة إلى راحة الروح وسعتها النفسية، بينما "ضيق القبر" يُشير إلى الكرب والهمّ الذي يعيشه الميت نتيجة حالته الروحية.
- العذاب يصيب الروح والجسد معاً: يرى العلماء أن الميت يتأثر بالعذاب برزخياً، وقد يعود جزء من الروح للجسد ليستشعر أثر النعيم أو العذاب. لذلك نُقل أن الميت يسمع خطوات أهله عند دفنه، ويتألم أو يرتاح بحسب مصيره.
- يُعد عذاب القبر عند جمهور أهل السنة والشيعة من العقائد التي تلقاها السلف بالقبول. ويرى بعض العلماء، كالسيوطي، أن تسميته بـ"عذاب القبر" لا تعني بالضرورة القبر الترابي، بل تشير إلى الحالة التي تلي الموت، سواء كان الإنسان دُفن أو لم يُدفن.
- الرؤية الصوفية: يضفي التصوف أبعاداً روحية على مفهوم البرزخ، فيصوّر القبر كمكان تتجلى فيه أسرار النفس، حيث يُكافأ الروحاني أو يُطهر، بحسب نقاء قلبه وصفاء سيره، وقد يتواصل بعض الأولياء مع الأرواح البرزخية عبر الكرامات أو الرؤى.
يرى المؤمنون بالمعتقد أن عذاب القبر تجلٍّ من عدالة الله، يُظهر حال الإنسان في أولى مراحل الحساب. وهو في نظرهم ليس ظلما ولا عبثاً، بل نتيجة مباشرة لأعمال الإنسان، فيُعجّل له ببشارة أو إنذار قبل المحشر، كمن تصله رسالة تمهيدية بمصيره قبل الجلسة الكبرى.
ب) رأي المنكرين : المنظور العقلاني الذي يشكك بالمعتقد
ينطلق المنكرون لمعتقد عذاب القبر من أن القرآن لم يذكر عذاب القبر صراحةً فهو غائب عن النص القرآني الصريح، بل تحدث عن الحساب بعد البعث. الآية: " ثم إنكم يوم القيامة تبعثون" (المؤمنون: 16) تُشير إلى أن العقاب لا يكون إلا بعد البعث.
"القرآنيون" وهم تيار يرفض الاستناد إلى الأحاديث في المسائل العقدية، ومنهم أحمد صبحي منصور ومحمد شحرور يرون أن ما لم يرد في القرآن لا يُعد من العقيدة.
يقول علي منصور كيالي وهو أحد أبرز من تصدّى لهذه القضية :
" القرآن لم يتحدث لا عن سؤال القبر ولا عن ملَكين، بل أكد أن الميت لا يشعر بشيء، والدليل: " قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ".
يقول محمد شحرور :"عذاب القبر عقيدة دخيلة بُنيت على حديث آحاد (أحاديث لم تتكرر من مصادر رواية مختلفة)، وهي تتناقض مع بنية النص القرآني الذي يفصل بين الموت والحساب." ويرى محمد شحرور أن عذاب القبر " عقيدة تأسست في القرون المتأخرة على روايات ظنية ".
المعتزلة في الماضي ربطوا العقيدة بما يُقبل عقلاً وأنكر بعضهم عذاب القبر، لأنه - بحسبهم - ظني الثبوت، ولا يُبنى عليه يقين عقائدي.
ويطرح العقل هنا تساؤلات في ثلاثة إشكاليات : العدالة ، الوعي ومرور الزمن :
1- إشكالية العدالة : عقاب قبل الحساب ؟
يرى المنكرون لعذاب القبر أن هذا المعتقد يصطدم مباشرة بمبدأ العدالة الإلهية، إذ كيف يُعقل أن يُعاقَب الإنسان على أعماله قبل أن يُحاسَب عليها رسميًا أمام الله يوم القيامة ؟
فوفق التصور العقلاني، لا يصح - لا شرعاً ولا منطقاً - إنزال عقوبة قبل المحاكمة العادلة العلنية، خصوصاً وأن يوم الحساب مصوَّر في النصوص كموعد لإقامة الحجة واستعراض الأعمال أمام الخلق، لا كمجرد إجراء شكلي. ويشبّه بعض المفكرين ذلك بمن يسجن شخصًا ويعذبه في زنزانة مظلمة، ثم يعرضه بعد ذلك على محكمة لتقرر مصيره! وهذا برأيهم يتنافى مع عدل الله المطلق، بل إن الله نفسه قد نفى الظلم عن ذاته في القرآن: ﴿ولا يُظلمون فتيلاً﴾. وعليه، فإن أي تصوّر لعقوبة تسبق المحاكمة العظمى يُعد في نظرهم تشويهاً للعدالة الإلهية، وتغليباً للرواية على المنطق، والظن على اليقين.
وعلاوة على ذلك يستدل المنكرون بأن هذا يناقض ما ورد عن الله عز وجل من صفات الرحمة والعدل، خاصة في الحديث القدسي المشهور: " إن رحمتي سبقت غضبي". فكيف لرحمة الله التي تسبق غضبه أن تسمح ببدء العذاب قبل إتمام الحساب ؟ هل يُعقل أن يتجاوز الغضب الإلهي هنا تلك الرحمة الواسعة التي وعد بها عباده ؟ يرى هؤلاء أن تصوير البرزخ كمكان سابق للحساب يتعارض مع روح القرآن التي تؤكد أن " كل نفس بما كسبت رهينة " ولكن " يوم القيامة توفّى كل نفس أجرها " (آل عمران: 185).
2- إشكالية الوعي : عذاب في غياب الوعي ؟
الآيات تصف حال الموتى كأنهم نائمون :
"قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا" (يس: 52)
" كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها " (النازعات: 46)
مما يوحي بأن الزمن يمر دون إدراك. وبالتالي، كيف يُعذب من لا يعي ؟
بمعنى: لو كان الميت يتعذب بالفعل، فكيف يستغرب البعث وكأن شيئاً لم يحدث بين الموت والقيامة ؟
يقول فريد زيدان :
"العذاب بدون وعي هو عبث يناقض العدالة."
ويضيف علي منصور كيالي في أحد برامجه :
"الإنسان بعد الموت في حالة رقود، لا يشعر بالزمن، ولا يُحاسب قبل قيام الساعة."
3- إشكالية الزمن : كيف تتحقق العدالة في مدة مكوث متفاوتة ؟
يُقال إن آدم عليه السلام في البرزخ منذ آلاف السنين، بينما آخر من يموت سيبقى فيه ليوم أو ساعات ، فهل يُعقل أن يتفاوت العذاب الزمني بهذا الشكل ؟
يقول البعض إن تفاوت الزمن بين الموتى في القبور يناقض مبدأ عدالة الله، ويُظهر البرزخ كعقوبة اعتباطية ، أي إذا كان الزمن لا يُحسب في البرزخ، فلا معنى للحديث عن نعيم أو عذاب ، إلا أذا كان الزمن يمر بشكل مختلف بين قاطني البرزخ والله أعلم.
سلطة تخويف أم تربية أخلاقية ؟
يرى فريق من المفكرين أن الاعتقاد بعذاب القبر استُخدم عبر التاريخ لترسيخ سلطة دينية تقوم على التخويف. واعتبروا أن تصوير القبر كمكان للرعب والانتقام يعكس سردية تخويفية أكثر من كونه تصوراً روحانياً.
في المقابل، يرى المؤمنون بعذاب القبر أنه يعكس عدالة إلهية مبكرة لمن يستحق، ويؤسّس لتربية أخلاقية رادعة في المجتمع.
سؤال مفتوح للعقل
عذاب القبر ليس مجرد معتقد غيبي، بل قضية تتقاطع فيها النصوص، الفهم، العقل، الزمن، والعدالة ، الذين يؤمنون به يرونه جزءاً من العقيدة الغيبية التي يجب التسليم بها. ومن يشكك فيه يطالب بميزان من الإنصاف والتفكر.
لماذا يُعذب الإنسان قبل أن يُحاسب ؟
ولماذا لا يعي المقبور شيئاً ثم يُفاجأ يوم القيامة ؟
وكيف نوفّق بين عدالة الله وتفاوت الأزمنة البرزخية ؟
أسئلة تستحق التوقف عندها.
فالغيب لا يعني أن نعطّل عقولنا... بل أن نستخدمها بتواضع أمام ما نجهل .
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .