![]() |
إعداد : كمال غزال |
في أروقة التاريخ الغامض، وبين دفاتر السحر والخفايا، برزت مزاعم عن لغة "إلهية" يُقال إن الملائكة يستخدمونها للتواصل مع البشر... إنها اللغة الإينوشية (Enochian)، والتي ارتبطت بالسحر، والتنجيم، والاتصال بكيانات من عوالم غير مرئية. فهل هي فعلاً لغة كونية ؟ أم اختراع ذكي محاط بالرمزية والخداع ؟
من أين جاءت هذه اللغة ؟
في أواخر القرن السادس عشر، زعم جون دي (John Dee)، المستشار العلمي والروحي للملكة إليزابيث الأولى، أنه تواصل مع ملائكة عن طريق وسيطه إدوارد كيلي (Edward Kelley)، رجل غامض ذو ميول صوفية، استخدم البلّورة (أداة العرافة) ليرى كيانات تدّعي أنها ملائكة.
خلال جلسات "التخاطر السماوي"، أملى "الملائكة" على كيلي حروفًا وجملاً بلغة غير معروفة، قائلين إنها "لغة الجنة" التي تحدث بها آدم قبل سقوطه من الفردوس. وسمّيت لاحقاً بـ"الإينوشية" نسبة إلى النبي إدريس ، الذي يُعتقد في بعض المعتقدات الباطنية أنه صعد إلى السماء وتعلّم أسرارها. ومن الجدير بالذكر أن النبي إدريس عليه السلام، المعروف في التوراة باسم "أخنوخ" (Enoch)، يُعد شخصية غامضة وذات شأن رفيع في التراث الديني؛ إذ يُقال إنه " سار مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه" (سفر التكوين 5:24)، مما فسّره البعض بأنه صعد إلى السماء دون أن يموت، وأصبح رمزاً للحكمة والمعرفة السماوية في التقاليد اليهودية والمسيحية والإسلامية.
ملامح اللغة
أبجدية خاصة تتألف من 21 حرفاً غريب الشكل ، وكلمات غير مألوفة: مثل " أول سونف فاورساغ " "OL SONF VAORSAG" بمعنى "نحن نعبدك، يا رب الكون" ، وهناك نصوص طقسية سُجلت في ما يعرف بـ"مفاتيح الإينوشية" Enochian Keys وهي نصوص استدعاء يُقال إنها تفتح بوابات بين العوالم.
هل هناك آثار لاستخدامها ؟ تجارب مزعومة ؟
سجّلت بعض المذكرات الطقسية أن المستخدمين شعروا بتغيرات في الوعي، هلوسات، أو أحلام غريبة بعد تلاوة مفاتيح إينوشية ، في إحدى الحالات المزعومة، قال أحد الممارسين أنه شعر بـ"حضور كيانات تحيط به وتخاطبه داخلياً " لعدة أيام بعد استخدامه لنصوص إينوشية، ما أدى إلى اضطرابات نفسية استدعت العلاج ، آخرون أفادوا أن استخدامها يعزز "الحدس" أو "الرؤية الداخلية"، لكن دون أي دليل علمي يؤكد فاعلية هذه الادعاءات.
ويرى بعض علماء النفس أن هذه التجارب تعكس حالات تنويم ذاتي أو انفصال نفسي Disassociation يمكن أن تؤدي لتجارب تشبه "الاتصال الروحي".
من استخدمها بعد دي وكيلي ؟
نعم، أثارت اللغة اهتماماً كبيراً في أوساط السحرة والباحثين في القرن العشرين، خاصة ضمن الجماعات الباطنية مثل :
- أليستر كراولي Aleister Crowley: أحد أشهر السحرة في العصر الحديث، استخدم اللغة الإينوشية في طقوسه لاستدعاء كيانات من "عوالم أخرى". وقال إنها فعالة لكن محفوفة بالخطر.
- جمعية الفجر الذهبي Golden Dawn: اعتمدت على الإينوشية ضمن نظمها السحرية، وكان يُعتقد أن قراءتها بصوت عالٍ قد تفتح بوابات لعوالم غير مرئية أو تستجلب كائنات خارقة.
كتب الإينوشية
هذان الكتابان يُعدّان الركيزتين الأساسيتين في التراث المرتبط باللغة الإينوشية، ويكتنفهما الكثير من الغموض والرمزية، ما يجعلهما من أكثر النصوص إثارة في تاريخ السحر الغربي :
1- كتاب خطاب الله Liber Loagaeth
يُترجم اسمه إلى "كتاب النطق الإلهي"، وهو النص الأقدم والأكثر غموضاً في مجموعة جون دي وكيلي ، يتألف من 49 صفحة مليئة بجداول معقدة من الحروف والكلمات غير المفهومة، وُصفت بأنها لغة إلهية خالصة ، زُعم أن الملائكة أمْلت هذا الكتاب على إدوارد كيلي خلال جلسات استحضار، واعتُبر أنه يحتوي على أسرار كونية وأسرار الخلق.
حتى اليوم، لم يتم فك رموزه بالكامل، وبعض الباحثين يرى أنه مجرد نص مشفر أو خيالي، بينما يعتبره السحرة أداة للتأمل العميق والاتصال بعوالم عليا.
2- المفاتيح الإينوشية Claves Angelicae
تعني "المفاتيح الملائكية"، وهي سلسلة من النصوص الشبيهة بالتراتيل أو الأدعية، عددها 19 مفتاحاً ، كُتبت بلغة إينوشية مع ترجمات إنجليزية مرافقة ، يُقال إن هذه المفاتيح تُستخدم لفتح "بوابات روحية" إلى عوالم الملائكة أو الكيانات العليا ، استخدمها لاحقًا أليستر كراولي وأعضاء جمعية "الفجر الذهبي" في طقوس سحرية لاستحضار كيانات أو لدخول حالات وعي مغايرة.
أبرز ما يُميز هذه المفاتيح هو طابعها الشعري الإيحائي، حيث تبدأ معظمها بعبارات مثل:
"O ye heavens which dwell in the first air..."
وقد فُسرت بأنها استدعاءات لقوى غير مرئية من "عروش السماء" أو "عوالم الخلق".
هذان الكتابان لا يُنظر إليهما فقط كنصوص دينية أو رمزية، بل أيضاً كوسيلة لسبر أغوار النفس والواقع، مما جعلهما مادة دائمة للجدل بين السحرة، الفلاسفة، والباحثين.
صلة اللغة الإينوشية بالكابالا والتقاليد الباطنية
رغم أن اللغة الإينوشية لا تنتمي مباشرة إلى الكابالا Kabbalah اليهودية، إلا أن هناك تشابهاً في المنهج الروحي والرمزية العددية التي اعتمدها جون دي في تفسيراته، ما يجعل البعض يرى أنها متأثرة بالكابالا ، الكابالا تسعى لفهم الكون الإلهي من خلال الأرقام والحروف، وهي فكرة تتقاطع مع رؤية دي للغة الإينوشية كـ"كود إلهي" يكشف أسرار الخلق ، استخدم دي رموزاً ومربعات سحرية (Sigillum Dei Aemeth) فيها عناصر قريبة من الرسم الكابالي، مثل الأسماء الإلهية والتقسيمات السماوية.
لذا يمكن القول إن اللغة الإينوشية كانت جزءاً من تيار باطني أوروبي تأثر بشدة بالكابالا، والعلوم الغنوصية، والخيمياء الروحية، رغم اختلاف مصدرها الظاهري (الملائكة بدلاً من الإله التوراتي).
هل هي حقيقة هذه اللغة ؟
يرى معظم الباحثين أن جون دي وكيلي - خصوصاً كيلي - اخترعا اللغة بشكل معقد مستوحينها من اللاتينية والعبرية وبعض الرموز السحرية ، ويُعتقد أن كيلي قد مارس خداعاً على دي، مستغلاً إيمانه المطلق بالسحر للسيطرة على جلسات التخاطر ، وتبقى اللغة الإينوشية لغزاً يتأرجح بين الإيمان والخرافة. لم يتم إثباتها علمياً كلغة طبيعية أو خارقة، لكنها بلا شك تمثل نموذجاً نادراً في تاريخ الماورائيات حيث يمتزج السحر مع اللغة والرمزية الروحية.
ولعل أكثر ما يجعلها مثيرة هو كونها مرآة لرغبة الإنسان الأبدية في كسر الحواجز بين العوالم، والبحث عن "لغة سرية" توصله إلى عالم الغيب.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .