![]() |
إعداد : سليم ناصر |
ذهبنا إليها ضاحكين، نجهل ما ننتظر. عدنا منها مثقلين بأسئلة لا تنتهي، كأنّنا خرجنا من فم الغابة وفي قلبنا صدى لم يُخلَق له جواب.
نصحنا البعض أن نؤجل الزيارة، أن لا نستفزّ ما خفي من الأرواح، لكننا مضينا. فهل تخيفنا عفاريت القرى، بعدما اعتدنا عفاريت السياسة ؟
عند منعطف ضيق لا يظهر إلا لمن يعرف، في طلعة شمالية تخنقها الأشجار، تبدأ الطريق إلى "وطى صفرتا". هناك، على دربٍ ترابيّ تحفه رائحة الأبقار وصمت الرهبان، انطفأت العين التي كانت تروي عطش القرية، وصارت الأشجار تهمس بما لا يُقال.
أول اختبار لنا كان كلباً أسود ضخماً، يزمجر في وجهنا كحارسٍ لمملكة خفية. اضطررنا للانسحاب، ثم وجدنا ممراً آخر، بوابتين معدنيتين، واحدة خضراء والأخرى سوداء، خلفهما انفتح أمامنا عالم لا يُشبه هذا العالم.
همسات بين الأشجار
وصلنا إلى القرية، فاستقبلنا الصمت. لا صوت، لا أحد، فقط أشياء متناثرة تُشير إلى أن حياةً ما كانت هنا ثم انطفأت. سيارة أودي صدئة، قميص قديم يتدلّى منها كذكرى، كراسٍ مقلوبة، زفت مغطى بأوراق الأشجار. نادينا، لكن الجواب كان رجع صدى بعيد.
فتحنا باباً خشبياً خلفه بابٌ آخر موصد بإحكام، وحين لم نجد أحدًا، سرنا إلى الغابة المحاذية. بين الأدراج الحجرية والعليق، وصلنا إلى ما بقي من كنيسة مار آصيا، معلمٌ روحيٌّ مهجور يهمس بصوت المصلّين الذين غادروه منذ زمن.
دقّينا الجرس الصدئ. ارتجف الصمت، فشعرنا بقليل من السلام. دخلنا الكنيسة المنسية، مقاعدها مُغبرّة، تمثال السيدة العذراء يراقب بصمت، وبعض الشموع ما زالت هناك، وكأن أحدهم مرّ منذ قرن وأشعلها.
صلّينا… لا لنطمئن، بل لنقوى.
اللعنة التي لم تُفك
وحين خرجنا من الكنيسة، كان الغروب قد بدأ يتسلّل. عدنا نسترجع الحكاية: قرية لا تلد ذكورًا، نساؤها عاقرات أو يُنجبن بنات فقط، ومن تبقّى منهن تزوج وغادر. يقال إن رصداً - جنياً أو عفريتاً - يسكن القرية منذ مئات السنين، يحرس كنزاً، ويمنع البشر من الاقتراب، يعاقب كل من يتحداه.
ذاك الرصد، حسب الحكايات الشعبية، يظهر ليلاً في الطرقات، يخيف المارة، ويطردهم من القرية إلى الأبد. أليست تلك أسطورة ؟ ربما… لكن كم من أسطورة تحولت إلى واقع ؟
عقل نخلة، ابن المنطقة، يتحدث عن كائن يُشبه "الساعور"، يأتي مع المطر والعتمة. في الماضي، كانت وطى صفرتا مأهولة، فيها مكتبة ومخطوطات، فيها شيخ صلح، وفيها حياة. واليوم؟ لا أحد.
آخر بيت فيها أقفل في العام 1958، بعدما غادرت آخر امرأة قريتها بلا عودة. منذ ذاك الحين، لم تُفتح الأبواب إلا لعابر سبيل… أو صيّادٍ تجرّأ ودخلها في وضح النهار.
ضوء لا يُرى
اسم "وطى صفرتا" بالسريانية يعني "البهية البراقة". فكيف انقلب البهاء إلى رهبة ؟ كيف تحوّلت الجنة إلى كابوس خرافي ؟ لا جواب.
ما نعرفه أن الأرض لا تزال هناك، والقرية لم تختفِ من الوجود، لكنها غدت خارج الزمن. لا سكان، لا ضحكة، لا طفلة تركض، لا موقد يشتعل. فقط صدى… وبعض الأرواح التي ربما لم ترحل.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .