![]() |
إعداد : كمال غزال |
في تاريخ الجريمة الأمريكية، يبرز اسم ريتشارد راميريز بوصفه أحد أكثر القتلة المتسلسلين إثارة للذعر، ليس فقط بسبب عدد ضحاياه أو وحشية جرائمه، بل لما حملته جرائمه من رمزية ميتافيزيقية مروعة، تقاطعت مع الطقوس الشيطانية والمعتقدات المظلمة.
ولد راميريز في 29 فبراير 1960 في إل باسو، تكساس، لعائلة من أصول مكسيكية، وعاش طفولة يطبعها العنف والخلل النفسي. لكنه لم يكن مجرد ضحية للبيئة، بل تحوّل إلى كائن يتغذى على الألم ويُعيد إنتاجه عبر طقوس مشوّهة وسلوكيات يكسوها طابع "عبادة الشر".
جذور في العنف والدم
بداية انحدار راميريز نحو الظلام تعود إلى تأثره المبكر بابن عمه ميغيل، جندي سابق في حرب فيتنام، كان يعرض عليه صوراً لأعمال اغتصاب وقتل مروّعة ارتكبها بنفسه ضد نساء فيتناميات. لم تكن هذه مجرد صور حرب، بل أدلة على وحشية واحتقار للحياة، غُرست في ذهن مراهق هشّ.
لاحقاً، شهد راميريز بعينيه مقتل زوجة ميغيل، ففي 4 مايو 1975، أقدم ميغيل على قتل زوجته الثانية، جوزيفينا "جيسي" فاييس، بإطلاق النار عليها في وجهها خلال مشادة منزلية. كان ريتشارد، البالغ من العمر آنذاك 15 عاماً، شاهداً على هذا الحادث المروع. تمت محاكمة ميغيل بتهمة القتل، لكنه أُعلن غير مذنب بسبب الجنون، حيث نُسبت الجريمة إلى اضطراب ما بعد الصدمة الناتج عن خدمته في حرب فيتنام. أمضى ميغيل عدة سنوات في مستشفى للأمراض النفسية قبل إطلاق سراحه لاحقاً.
تُعتبر هذه الحادثة من اللحظات المفصلية في حياة ريتشارد راميريز، حيث أثرت بشكل عميق على نفسيته وساهمت في تشكيل ميوله العنيفة لاحقاً ، أصبح راميريز أكثر انعزالاً، وبدأ يتردد على المقابر، ويتعاطى المخدرات، ويغرق في قراءة الكتب عن السحر الأسود.
المتعقب الليلي: وحش يزحف تحت ستار الليل
بين عامي 1984 و1985، نشر راميريز الرعب في ولاية كاليفورنيا وكان يلقب بـالمتعقب الليلي The Night Stalker ، لم تكن جرائمه عشوائية فقط، بل كانت تمثل طقساً يكرر نفسه بأساليب أكثر بشاعة كل مرة.
أشهر جرائمه كانت قتل الزوجين ماكسين وفينسنت زازارا. بعد أن قتل فينسنت، مزّق جسد ماكسين بوحشية، واقتلع عينيها واحتفظ بهما كـ"تذكار" .
في حادثة أخرى، أجبر إحدى ضحاياه على القسم بولائها للشيطان، بعد أن اغتصبها وهدد حياتها .
في كل مسرح جريمة، كانت هناك نجمة خماسية مقلوبة مرسومة على الجدار أو الجسد، وفي حالات استخدم أحمر الشفاه أو دم الضحايا.
أرقام وتفاصيل عن الجرائم والضحايا
13 جريمة قتل ، 5 محاولات قتل ، 11 اعتداء جنسي واغتصاب ، أكثر من 14 اقتحام منازل ، أكثر من 6 حالات اختطاف واحتجاز.
- الضحايا: ذكور وإناث من مختلف الأعمار، تراوحت أعمارهم بين 9 سنوات و83 سنة.
- أصغر الضحايا: مي لوينغ طفلة بعمر 9 سنوات اُغتصبت وقُتلت عام 1984 ، ولم يُربط بها إلا في 2009 عبر فحص DNA.
- أكبر الضحايا سناً :مايبل بيل عمرها 83 عاماً، تم تعذيبها وصعقها بالكهرباء.
- أدوات القتل: مسدس 22 ملم، سكين مطبخ، مطرقة، قضيب حديدي، كابل كهربائي.
- عدد الجرائم التي تضمنت رموزاً شيطانية: على الأقل 6 جرائم وُجدت فيها نجمة خماسية مقلوبة أو شعارات مكتوبة بالدم أو بأحمر الشفاه.
قصص أبرز الجرائم
إليك بعض القصص المروعة التي ارتكبها القاتل المتسلسل ريتشارد راميريز بدم بارد ، والتي تسلط الضوء على وحشية جرائمه وتفاصيلها المروعة :
1- جريمة قتل ماكسين وفينسنت زازارا (27 مارس 1985)
في هذه الليلة، اقتحم راميريز منزل الزوجين فينسنت (64 عاماً) وماكسين زازارا (44 عاماً) في ويتير، كاليفورنيا. أطلق النار على فينسنت أثناء نومه، ثم اعتدى بوحشية على ماكسين، حيث قام بطعنها وقطع عينيها واحتفظ بهما في صندوق مجوهراتها كـ"تذكار شيطاني". ترك راميريز آثار حذائه الرياضي من نوع Avia في مسرح الجريمة، مما ساعد الشرطة لاحقاً في تتبعه.
2- الهجوم على ماريا هيرنانديز ودايل أوكازاكي (17 مارس 1985)
في روزميد، كاليفورنيا، هاجم راميريز ماريا هيرنانديز (22 عامًا) أثناء دخولها مرآب منزلها، وأطلق عليها النار، لكنها نجت بأعجوبة عندما ارتدت الرصاصة عن مفاتيحها. ثم دخل المنزل وأطلق النار على زميلتها في السكن، دايل أوكازاكي (34 عامًا)، وقتلها. في نفس الليلة، قتل تساي-ليان "فيرونيكا" يو (30 عاماً) في مونتيري بارك.
3- الهجوم على بيل كارنز وإينيز إريكسون (24 أغسطس 1985)
في ميشن فييخو، كاليفورنيا، اقتحم راميريز منزل بيل كارنز (30 عاماً) وخطيبته إينيز إريكسون (29 عاماً). أطلق النار على كارنز ثلاث مرات في الرأس، لكنه نجا. ثم اعتدى على إريكسون واغتصبها، وأجبرها على "القسم بالولاء للشيطان". بعد مغادرته، تمكنت إريكسون من فك قيودها وطلبت المساعدة، مما ساعد الشرطة في تحديد هويته.
4- جريمة قتل ماي ليونغ (10 أبريل 1984)
في سان فرانسيسكو، استدرج راميريز الطفلة ماي ليونغ (9 سنوات) إلى قبو مبنى سكني، حيث اعتدى عليها جنسياً وقتلها. لم يتم ربط هذه الجريمة به إلا في عام 2009، عندما تطابقت عينات الحمض النووي من مسرح الجريمة مع عيناته.
5- الهجوم على مابيل بيل وفلورنس لانغ (29 مايو 1985)
في مونروفيا، كاليفورنيا، اقتحم راميريز منزل الشقيقتين المسنتين مابيل "ما بيل" بيل (83 عاماً) وفلورنس "نيتي" لانغ (81 عاماً). قام بضربهما وصعقهما بالكهرباء، ثم رسم نجمة خماسية على فخذ بيل باستخدام أحمر الشفاه. نجت لانغ من الهجوم، لكن بيل توفيت متأثرة بجراحها.
هذه القصص تعكس الوحشية والدموية التي اتسمت بها جرائم ريتشارد راميريز، والتي أثارت رعباً واسعاً في كاليفورنيا خلال فترة نشاطه الإجرامي.
القبض والمحاكمة
في 30 أغسطس 1985، تعرّف أحد المواطنين على ريتشارد راميريز من صورته المنشورة في الصحف، فهرب راميريز في شوارع شرق لوس أنجلوس محاولاً سرقة سيارات.
تجمّع عليه سكان الحي، طاردوه وضربوه بشدة، حتى وصلت الشرطة وقبضت عليه رسمياً وهكذا، سقط "المتعقب الليلي" على يد الناس قبل أن يسقطه القانون.
كان المجتمع في حالة هستيريا جماعية. وخلال محاكمته وقف في قاعة المحكمة رافعاً راحة يده وقد رسم عليها نجمة خماسية، وصاح: " يحيا الشيطان ! Hail Satan . لم يكن ذلك مجرد استعراض، بل قناعة راسخة أنه "يُقاد" من قوة خارقة.
في مقابلات لاحقة، تحدث عن "كائن شرير" - وهو مصطلح مبهم لكنه صريح - وصفه بأنه موجود خارجي " لا يُشبه الشيطان في الروايات، بل هو أكثر قدماً وقوة وغموضاً "، وكان يشعر أنه يُحرّك من خلاله.
الغريب أن ريتشارد، ورغم ذكائه الحاد، لم يُظهر أي ندم، بل بدا وكأنه يرى نفسه "جزءاً من خطة شيطانية " أكبر منه، وكأن العنف هو شكل من أشكال الطاعة.
رغم أن التحليلات النفسية له لم تؤكد بشكل قاطع إصابته باضطراب انفصام أو ذهان يتسبب بسماع أصوات، فإن سلوكه وكلامه وتكرار رمزية " القوة الخارقة " تشير إلى حالة عقلية ربما تحمل سمات الذهان الهوسي الديني. كان يرى نفسه مكلّفاً من "الظلام" لأداء دور، وتبرير كل جريمة على أنها طقس مُقدّس لخدمة سيدٍ مظلم.
في السجن، تلقّى ريتشارد مئات الرسائل من النساء، كثيرات منهن اعتبرنه نبياً أو " شهيداً شيطانياً ". إحداهن، صحفية تُدعى دورين ليوي، تزوّجته عام 1996، مقتنعة ببراءته، رغم الأدلة القاطعة ضده.
النهاية
قضى راميريز أكثر من 23 عاماً في انتظار تنفيذ حكم الإعدام، لكنه مات لأسباب طبيعية قبل تنفيذ الحكم في 7 يونيو 2013 بسبب مضاعفات من سرطان الغدد الليمفاوية.
أصبحت قصته جزءاً من ثقافة الرعب الجماعية، وأُنتج عنه عدد من الوثائقيات والمسلسلات، أبرزها Night Stalker: The Hunt for a Serial Killer على نتفليكس.
ريتشارد راميريز لم يكن مجرد قاتل يسعى للدم. بل كان رجلاً تبنّى الشر كدين، واتخذ من الشيطان سيداً وملهِماً. جرائمه لم تكن فقط وسيلة لإشباع شهوة القتل، بل طقساً يعكس معتقداً مظلماً عن السيطرة، والقوة، والانتصار على "الخير".
في عالم الجريمة، هناك قتلة مرضى، وقتلة انتقاميين، لكن راميريز كان شيئاً آخر: صدى حيّ لصرخة الظلام داخل الإنسان... والمرعب أنه لم يكن وحيداً في إيمانه.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .