![]() |
إعداد : كمال غزال |
في زوايا العالم الهادئة، قد تخفي الطبيعة البريئة ظلالاً لا تنكشف إلا لمن يدقق السمع والبصر.
كانوك تشيس Cannock Chase، تلك الغابة البريطانية الوادعة، تعدّ واحدة من هذه الأماكن التي جمعت بين الجمال والمأساة. فبينما تحتضن أشجارها الكثيفة محبي الطبيعة، تهمس الرياح فيها بقصص أطفال قُتلوا غدراً، وأرواح يُقال إنها لم تجد الراحة بعد.
هذا المقال يستعرض الجرائم المأساوية التي حدثت في كانوك تشيس، ظهور أسطورة "الطفلة ذات العينين المظلمتين"، ويرصد التفسيرات العلمية الممكنة لهذه الظواهر الخارقة، مع تحليل لطبيعة التحقيقات التي جرت.
الجرائم البشعة في كانوك تشيس
مارغريت رينولدز (6 سنوات) وديان تيفت (5 سنوات) اختفيتا في عام 1965 أثناء ذهابهما إلى المدرسة أو زيارة أحد الأقارب.
رغم عمليات البحث الواسعة، لم يتم العثور عليهما حتى يناير 1966، حينما وجدت جثتاهما مكدستين في خندق ، ثم تعرضت كريستين داربي (7 سنوات) للاختطاف في أغسطس 1967 بعد أن أغراها رجل غريب بالدخول إلى سيارته ، وتم العثور على جثتها لاحقاً وعليها آثار الإعتداء والخنق.
تحقيقات مكثفة قادت إلى توقيف رايموند موريس، وهو عامل مصنع محلي معروف بسلوكه المريب ورغم الاشتباه بتورطه في جميع الجرائم، أُدين فقط بقتل كريستين داربي عام 1969، وحُكم عليه بالسجن المؤبد حتى وفاته في 2014.
ولادة أسطورة الطفلة ذات العينين المظلمتين
بعد عقود من وقوع الجرائم، بدأ السكان المحليون والزوار يتحدثون عن ظهورات غامضة لطفلة تتجول بين المسارات، بملامح طبيعية لكنها تملك عينين سوداوان بالكامل خاليتين من البياض أو القزحية.
ظهرت شهادات متفرقة، خاصة بعد عام 2014، تحدثت عن سماع صرخات في الغابات، ورؤية طفلة تضع يديها على عينيها قبل أن تكشف عن عيون مظلمة مخيفة.
الربط بين الجرائم والظهورات
يرى بعض الباحثين الشعبيين أن تلك المشاهدات قد تكون مرتبطة بروح كريستين داربي، خصوصاً مع الرواية القائلة بأن القاتل عصب عينيها قبل قتلها مما جعل البعض يعتقد أن روحها تائهة لا تبصر طريقها للخلاص.
صور مشكوك بها بدأت تظهر على الانترنت
على مر السنين، زادت شهرة أسطورة الطفل ذو العيون المظلمة، وبدأت تظهر على الإنترنت عدة صور يزعم أصحابها أنهم التقطوها في مناطق مختلفة من كانوك تشيس.
بعض هذه الصور، وفق ما يروّج له، قيل إنها قد تُظهر شبح الطفلة كريستين داربي، التي كانت ضحية إحدى أبشع الجرائم في المنطقة.
- في عام 2014، ظهرت صورة شهيرة التقطت في منطقة Birches Valley من كانوك تشيس.
الصورة تظهر ما يبدو أنه طفلة صغيرة بيضاء البشرة تقف بين الأشجار في منطقة خافتة الإضاءة.
ملامح الوجه غير واضحة، لكن الظل حول العينين بدا داكناً بطريقة جعل البعض يربطها بفكرة "العيون المظلمة".
في صور أخرى أقل شهرة، تم التقاط أجسام ضبابية بيضاء أو شبه شفافة، وادعى بعض الهواة أن إحداها تشبه شكل طفلة ترتدي ملابس قديمة الطراز.
تقييم الصور وتحليلها
1- ضعف جودة الصور
معظم الصور التي زُعِم أنها تظهر شبح كريستين أو "الطفل ذو العيون المظلمة" كانت ذات جودة منخفضة جداً ، مضببة أو مهزوزة والتقطت في ظروف إضاءة سيئة (الغروب أو الليل أو ضباب كثيف) مما يجعل احتمال حدوث ظواهر بصرية طبيعية أو أخطاء تصويرية عالياً.
2- عدم وجود تحقيقات رسمية
رغم شهرة هذه الصور محلياً وفي المنتديات المختصة بالظواهر الخارقة، لم يتم إجراء أي تحقيق رسمي من قبل السلطات أو خبراء تصوير معتمدين لتأكيد صحة هذه الصور.
الصور بقيت في نطاق الأدلة القصصية Anecdotal Evidence، مما يجعلها مثيرة للجدل وغير معتمدة علمياً.
3- احتمال التلاعب الرقمي
مع تطور تقنيات تحرير الصور، لا يمكن استبعاد فرضية أن بعض الصور قد خضعت لتعديلات بسيطة لإبراز شكل الطفلة أو زيادة الظلال حول العينين، خاصة مع عدم توفر النسخ الأصلية بدقة عالية للفحص.
التحقيقات الرسمية
في الجرائم الأصلية، اعتمدت الشرطة على شهادات العيان، والفحوصات الجنائية البدائية في ذلك الوقت.
أما في الظهورات الخارقة، فلم تفتح الشرطة تحقيقات رسمية، باعتبار هذه الظواهر غير مثبتة علمياً، واعتبرتها ضمن نطاق الأساطير الشعبية.
مع ذلك، صحف محلية مثل The Birmingham Mail، والصحف الوطنية أبدت اهتماماً بتوثيق شهادات من يزعمون رؤية " الطفلة ذات العينين المظلمتين"، مما ساهم في ترسيخ الأسطورة.
فرضيات التفسير
رغم الطابع المثير للقصص، فإن العلم يقدم عدداً من التفسيرات المحتملة:
1- الهلوسات البصرية Pareidolia
العقل البشري مبرمج لرؤية أنماط مألوفة مثل الوجوه في الظلال والضوء.
في بيئة مظلمة كالغابة، قد يخطئ العقل في تفسير أشكال الأشجار أو الظلال كأشخاص أو كائنات. إقرأ عن ظاهرة الباريدوليا.
2- التنويم المغناطيسي البيئي Environmental Hypnosis
المشي لساعات وسط الضباب والأشجار الكثيفة مع وجود خوف داخلي يمكن أن يضع الإنسان في حالة شبيهة بالتنويم، تجعله أكثر عرضة لرؤية أو سماع أشياء غير موجودة.
3- الطاقة المتبقية Residual Energy Theory
بعض الباحثين في علم الباراسيكولوجي يقترحون أن الأماكن التي شهدت مآسي قوية قد "تسجل" الأحداث في طاقة البيئة، بحيث يتم تشغيل "التسجيل" بشكل عشوائي عندما تتشابه الظروف البيئية (رطوبة، ضغط جوي منخفض، سكون) ، إقرأ عن ظاهرة السُكنى المقيمة .
4- الهستيريا الجماعية Mass Hysteria
عندما تنتشر قصة خارقة في مكان معين، يكون الناس أكثر عرضة لتفسير أي ظاهرة طبيعية كأصوات الرياح أو انعكاسات الضوء بطريقة تتماشى مع القصة المتداولة ، إقرأ عن الهستيريا الجماعية.
كانوك تشيس اليوم
رغم مرور عقود على تلك الجرائم، لا تزال كانوك تشيس تُعد مكاناً ساحراً ومرعباً في آنٍ واحد.
يزورها آلاف الأشخاص سنوياً للاستمتاع بالمشي واستكشاف الغابات، لكن كثيرين منهم يصفون إحساساً غريباً، أشبه بثقل غير مرئي يرافقهم أثناء التجوال.
تعيش أسطورة "الطفلة ذات العينين السوداوين" جنباً إلى جنب مع القصص المحلية الأخرى عن ظواهر غامضة، مما يجعل كانوك تشيس واحدة من أكثر المناطق شهرةً في بريطانيا على صعيد الأساطير والقصص الخارقة.
قصة كانوك تشيس تختصر علاقة الإنسان القديمة بالغموض ، حين تتلاقى المآسي الحقيقية مع مخاوفنا الدفينة تُولد الأساطير.
وفي حين يسعى العلم لتفسير الظواهر بعين المنطق، يبقى في قلوبنا مساحة صغيرة تصرعلى الإيمان بأن هناك دائماً أكثر مما تراه العيون.
هل روح كريستين داربي لا تزال تمشي تحت ظلال الغابة ؟ أم أن كل ما نراه مجرد مرآة لمخاوفنا العميقة ؟
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .