![]() |
إعداد : كمال غزال |
ثمة شعور غامض، لا تفسّره القوانين ولا تقيده الحواس، يُراودنا حين ندخل غرفة شبه مظلمة، أو نسمع خشخشة خفيفة في ركن خالٍ من البيت، أو نستيقظ في هدأة الليل على وقع خطوات لا نعرف مصدرها. في مثل هذه اللحظات،قد نسترجع كيانات من طي النسيان الشعبي، تُعرف في الذاكرة العربية بـ "عمار المكان".
عُمّار المكان - بحسب الثقافة العربية الشعبية - هم كائنات خفية، تُنسب غالباً إلى عالم الجن، وتُعتقد إقامتهم في البيوت والساحات والأماكن التي تأنس بالبشر. لا يظهرون عادة، لكنهم حاضرون.
لا يؤذون إن حُفظ لهم المكان، لكنهم قد يغضبون إن انتهكت حرماتهم. وجودهم لا يُقصد به الترويع، بل أشبه بجيرة صامتة، توازن بين العالمين: عالم المرئي واللامرئي.
يسكن العمار - وفق هذه الرؤية - الأماكن المهجورة، أو التي يغفل الناس عن تحصينها بالذكر أو النظافة. يفضّلون الزوايا المعتمة، الغرف غير المأهولة، السقوف، الآبار، الإسطبلات القديمة.
ويُقال إنهم يختارون البيوت التي " يتردد فيها الصدى أكثر من صوت الإنسان" ، كما تقول الجدّات. هم ليسوا أشباحاً، ولا أرواح موتى، بل كائنات لها عالمها الخاص، تتقاطع أحياناً مع عالمنا في لحظات عابرة.
طقوس الجوار الغامض: كيف تعامل الناس مع العمار ؟
في الذاكرة الشعبية العربية، لم يكن عمار المكان مجرد خرافة أو ظلًا يتكرر في الروايات، بل جزءًا من معادلة سكن المكان و"تسليمه" لسكينة العيش. وقد نسج الناس حولهم طقوسًا خفية، تراوحت بين الاحترام، التهيّب، والتعامل الحذر.
في بلاد المغرب العربي، يُعتقد أن البيوت القديمة لا تخلو من عمار، خاصة تلك التي طالها الهجر أو الترميم. لذا، حين يُعاد فتح باب مهجور، يُستحب – في عرف السكان – نطق عبارة مثل: "السلام على من في المكان" أو رشّ الماء قبل الدخول. وفي بعض القرى، يضع الناس ملحًا أو بخورًا في الأركان عند الانتقال إلى منزل جديد، لتهدئة "السكان الخفيين".
في مصر، يتردد في بعض الأرياف أن البيوت التي تُسمع فيها حركات ليلية، أو تقع فيها أشياء دون سبب، لا يُتَّهم فيها الأشباح، بل "العمار". ولذلك، تحرص العائلات على عدم ترك الغرف مظلمة تمامًا، وتُمنع الأطفال من الصراخ أو القفز ليلاً "حتى لا يزعجوا العمار".
في بلاد الشام والخليج، تنتشر عبارات شائعة عند الدخول إلى أماكن غير مأهولة أو مغلقة مثل: "دستور يا حاضرين"، وهي نوع من التحية والاستئذان الموجهة إلى "عمار البيت". بل وحتى عند سكب الماء الساخن في الحمام أو الحوش، يُستحب نطق هذا الاستئذان، اعتقادًا بأن غفلة الإنسان قد تؤذي أحد العمار دون قصد.
وفي كل هذه التقاليد، يظهر حرص ضمني على التوازن: لا يُسبّون، لا يُستحضرون، بل يُعاملون كما يُعامل جار هادئ، نحفظ له خصوصيته، ونحذر من استفزازه. فهم في نظر العامة ليسوا أرواحًا شريرة، بل "أهل سكنى قدامى"، يفضلون الصمت، ويحفظون النظام إن تُركوا وشأنهم.
تجارب تروي أكثر من ذلك
في منتديات وقنوات عربية، تتكرر التجارب الواقعية التي ينسبها أصحابها لعمار المكان.
- وفي إحدى القصص، تروي فتاة من الجزائر أنها كانت تسمع كل ليلة أصوات خطوات خفيفة تمر من المطبخ إلى غرفتها، ومع أنها تعيش وحدها، لم تجد تفسيراً، إلا أنها بدأت في قراءة القرآن يومياً، ثم اختفى الصوت فجأة.
- يروي أحمد من مصر تجربته التي أرسلها إلى موقعنا ونشرت تحت عنوان "هم في حالهم ونحن في حالنا" أنه في أحد الليالي الريفية، قرر أن ينام في غرفة خالية داخل شقة عمه، غير آبه بتحذير ابن عمه الذي قال مازحاً: " صاحبتك هتزعل ". لم يكن أحمد قد تجاوز السابعة عشرة من عمره حينها، مدفوعاً بفضول المراهقة ورغبة باكتشاف الحقيقة. وبعد نصف ساعة من السكون، انبعثت رائحة لحمٍ متعفن، تبعها ظهور امرأة عجوز، ملامحها غائمة لكنها تتضح تدريجياً، تجلس على طرف السرير. لم تنطق، ولم تتحرك، بل اكتفت بالجلوس بثقل الصمت، قبل أن تتلاشى تاركة خلفها رائحتها الثقيلة. عندما أخبر جدته، اكتفت بالقول: "هي صاحبة المكان… ولن تضركم، فقط لا تزعجوها" ، ولم تكن تلك الليلة الوحيدة التي لامس فيها أحمد غموض "عمار المكان". في زيارة أخرى، لمح على سطح منزل مهجور ظلًّا يشبه امرأة تنحني كما لو كانت تطعم طيورًا. لكنه صُدم في اليوم التالي عندما اكتشف أن المنزل لم يكن موجودًا أصلًا. الأرض خاوية. لا أثر لبناء، ولا شجرة، ولا طبق فضائي. وعندما أشارت ابنة خالته إلى نفس الموقع وأغمي عليها من هول الصدمة، أدرك أن ما رآه لم يكن وهمًا خاصًا به فقط.
- وفي إحدى القصص، تروي فتاة من الجزائر أنها كانت تسمع كل ليلة أصوات خطوات خفيفة تمر من المطبخ إلى غرفتها، ومع أنها تعيش وحدها، لم تجد تفسيراً، إلا أنها بدأت في قراءة القرآن يومياً، ثم اختفى الصوت فجأة.
- وفي قصة من الكويت، قال أحد الشبان إنه رأى خيال رجل طويل يقف عند باب غرفته في بيت جده القديم. لم يتحرك، ولم يتحدث، لكنه كان هناك، كما لو أنه يحرس شيئاً. وعندما أخبر جدته، قالت: "هذا من عمار البيت، لا تخف… هم أهل المكان قبلنا ".
- وفي ريف سوريا، تقول عجوز إنها لا تزال، كل صباح، تضع قليلاً من الملح والماء في زاوية البيت، " كرمز للسلام مع من يسكنون معنا بصمت "، كما تصفهم. بالنسبة لها، لا خوف، بل نوع من الاحترام المتبادل.
في الموروث الإسلامي: التوازن بين الاعتراف والتحصين
رغم عدم ورود مصطلح “عمار المكان” صراحة في النصوص الإسلامية، إلا أن الإسلام يعترف بوجود الجنّ ككائنات غير مرئية، منهم الصالحون ومنهم غير ذلك، ويسكن بعضهم الأماكن المهجورة أو غير المحصّنة. في السنة النبوية، وردت نصوص تدعو إلى التحصين دون الدخول في تفاصيل غيبية. قال النبي ﷺ: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة". كما يُستحب ذكر الله عند دخول البيوت، وأذكار المساء والصباح، وقراءة آية الكرسي عند النوم.
الإسلام لا يدعو للخوف من الجن، بل يحث على التعايش الآمن معهم عبر سلوكيات تحفظ خصوصية كل طرف. لا ضرر ولا ضرار. لا إيذاء من دون سبب، ولا اعتداء على جنّ بغير بينة. ولهذا نهى بعض العلماء عن تصديق كل خرافة تُروى حول الجن، كما حذّروا من المبالغات في تصويرهم كمهيمنين على تفاصيل الحياة. وإذا وُجِد ما يشبه الظواهر الغريبة، فالعلاج يبدأ بالقرآن، والتحصين، ثم الهدوء والطمأنينة.
حين يتحدث العلم
العلم لا يُثبت وجود الجن، لكنه يفسّر الكثير من الظواهر التي تُنسب إليهم. فمثلاً، من المعروف أن الترددات الصوتية المنخفضة جداً Infrasound يمكن أن تسبب شعوراً بالقلق أو الذعر أو حتى "إحساس بوجود شخص ما"، وهي ذبذبات لا يسمعها الإنسان لكن تؤثر على إدراكه.
كما تُفسّر حالات شلل النوم (الجاثوم) بأنها اضطراب في توقيت النوم، حيث يستيقظ العقل قبل الجسد، ويعيش النائم لحظات من الهلوسة السمعية أو البصرية، قد يرى خلالها ظلالًا أو يشعر بكائن يجثم عليه.
ومن الناحية المعمارية، فإن الأصوات الليلية التي تشبه الخطى أو النقرات قد تصدر ببساطة عن تمدد الخشب، أو انكماش الأنابيب، أو حركة الهواء في الأبنية القديمة. وحتى الشعور بالبرد المفاجئ في ركن معين من الغرفة، قد يكون سببه تدفّق هواء غير منتظم أو تشققات في الجدران.
أما على المستوى النفسي، فإن التوتّر، الوحدة، والحرمان الحسي قد تدفع الدماغ لاختلاق "مثيرات وهمية"، يترجمها العقل حسب معتقدات الشخص المسبقة. فالذي نشأ في ثقافة تحكي عن الجن والعمار، غالبًا ما سيُسقِط هذه الصور على أي فراغ غامض أو حدث غير مفسر.
الحكاية التي لا تنتهي
بين العلم والمعتقد، بين التجربة الشخصية والنص، يظلّ "عمار المكان" كائنات تعيش على هامش الإدراك، لا يمكن إنكارها تماماً ولا إثباتها بشكل نهائي. هم حاضرون في القصص التي تُروى عند المدفأة، وفي الأدعية التي تُهمَس عند دخول البيوت، وفي تلك اللحظة القصيرة حين نشعر أن أحداً يمرّ من خلفنا… ولا نجد أحداً.
هل هم كائنات تسكن بيوتنا فعلًا ؟ أم أنهم مرآة لخيالاتنا القديمة، لحاجتنا الدائمة إلى شريك خفيّ يمنح للمكان نَفَساً، حتى لو لم نره ؟
نحن لا نملك إلا ان نحصن أنفسنا، ونقول همساً عند عتبة الغرف: " دستور يا أهل المكان… "
نحن لا نملك إلا ان نحصن أنفسنا، ونقول همساً عند عتبة الغرف: " دستور يا أهل المكان… "
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .