![]() |
إعداد : كمال غزال |
في جزر نيوزيلندا النائية، حيث يلتقي المحيط الهادئ بالأساطير، لا تزال روح الماوري، السكان الأصليين لهذه البلاد، نابضة في الطقوس والمعتقدات التي تمتزج فيها الحياة بالموت، والمرئي بالخفي، والواقع بالعالم الآخر.
إنه عالم يتعايش فيه الناس مع الأرواح، حيث تُعتبر الجبال والأنهار كائنات حيّة، وتمشي الكائنات غير المرئية بجانب البشر في كل لحظة، تراقبهم، ترشدهم، أو ربما تعاقبهم.
أرواح "الكيهوا" Kehua: سكان العالم غير المرئي
تُعرف الأرواح في الميثولوجيا الماورية باسم "كيهوا"، وهي أرواح الموتى التي لم تغادر عالم الأحياء بعد. قد تكون أرواحًا هائمة تبحث عن العدالة أو تعود لحماية أحبائها، وقد تكون أرواحًا غاضبة بقيت مرتبطة بمكان معين بسبب حادث مأساوي.
يؤمن الماوريون بأن هذه الأرواح قد تسكن البيوت المهجورة، أو تتجسد في صوت خافت في الليل، أو ظلٍ يمرّ أمام عينك للحظة، أو حتى في رائحة مألوفة تفاجئك دون سبب.
وهناك من يتواصل مع هذه الأرواح من خلال الطقوس، عبر كهنة روحيين يُدعون توهونغا Tohunga ممن يُعتقد أنهم يملكون القدرة على استدعاء الأرواح أو طردها.
التابو: القوانين المقدسة التي تحكم كل شيء
في قلب العقيدة الماورية، هناك مفهوم بالغ الأهمية يُعرف باسم "تابو" (Tapu)، ويعني الشيء المقدس أو المحظور ، كل ما يُعتبر تابو لا يُلمس، لا يُنتهك، لا يُعامل معاملة عادية، لأن انتهاك التابو لا يُعد فقط كسرًا للعرف، بل إهانة روحية قد تجلب اللعنة أو العقاب من القوى الخفية.
من الأمثلة العجيبة على هذا :
أيدي الكاهن "توهونغا" كانت تُعتبر تابو، لأنها ترتبط بالأرواح والمقدسات. لذلك، كان الكاهن لا يُسمح له بإطعام نفسه، ولا يُسمح لأحد أن يلمسه. وفي صورة نادرة تعود إلى عام 1920، نرى امرأة تُطعمه باستخدام شوكة طويلة، دون أن تلمس الطعام أو يده – احترامًا لقدسيته.
وليس الرأس أو اليد فقط، بل حتى أماكن معينة مثل مواقع الدفن، أو أدوات الشعوذة، أو قطع معينة من الملابس قد تُصبح "تابو"، ويُمنع الاقتراب منها إلا لمن يحمل المعرفة أو المباركة.
الزورق الشبحي: نذير الأرواح قبل الكارثة
من بين أكثر القصص إثارة في التراث الماوري، قصة "الزورق الشبحي" Phantom Canoe، التي حدثت عام 1886، قبل ثوران بركان "تاراويرا".
يحكي الشهود أنهم رأوا زورقاً طويلاً، يتحرك بصمت فوق مياه بحيرة "تاراو"، وعلى متنه رجال بملابس سوداء، لا يتكلمون، لا يردّون، ولا يرمشون. اختفى الزورق كما ظهر، دون أن يترك أثراً.
بعد أيام، انفجر البركان، وقتل مئات الأشخاص، ودُمّرت قرى بأكملها. فُسّرت هذه الرؤية لاحقًا بأنها رسالة تحذير من أرواح الأجداد ، وأن الزورق جاء ليأخذ أرواح الموتى القادمين.
الجسد في نظر الماوري: وعاء للروح، لا مجرد مادة
الماوري لا ينظرون للجسد نظرة مادية. فالرأس يُعتبر أقدس جزء، لأنه مقرّ الروح والطاقة. لذلك، لمس الرأس دون إذن يُعد انتهاكًا كبيراً، حتى اليوم في بعض القرى. بل إن كثيرًا من الماوري لا يحبون أن تُلمس رؤوس أطفالهم، احتراماً لثقافة الأجداد.
أما الكهنة والروحانيون، فكانوا يُعامَلون كوسطاء بين العالمين، تُفرض حولهم طقوس صارمة، ويُمنع عليهم أحياناً لمس الطعام أو مشاركته مع العامة، كي لا تتدنّس طاقاتهم.
التعايش مع الغيب: أسلوب حياة
كل هذه المفاهيم لا تُفهم بوصفها خرافات، بل هي طريقة لفهم العالم والتعايش معه بعمق روحي وإنساني.
الماوري لم يروا في الموت نهاية، بل عبورًا إلى مستوى آخر. ولم يروا في الأشباح وحوشاً مخيفة، بل رسلًا أو إشارات من أرواح لم تكتمل رحلتها.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .