![]() |
إعداد : كمال غزال |
في الثقافة المغاربية، تتربع شخصية لالة مليكة الزهواني كأحد أبرز رموز العالم الخفي. ليست مجرد أسطورة تُحكى في المجالس، بل "ملكة من ملوك الجن" تُذكر في طقوس "كناوة" و"الزار"، وتُستحضر في جلسات الرقية، وتحضر حتى في الأغاني والأفراح. البعض يتقرب منها للشفاء، وآخرون يهابونها خشية الانتقام، بينما ينظر إليها المتدينون بعين التحذير، لأنها تمثل باباً مفتوحاً على الغيب المريب.
من هي لالة مليكة الزهوانية ؟
"لالة" هو لقب توقير نسائي في المغرب، و"مليكة" تعني الملكة، أما "الزهوانية" فهي صفة مشتقة من الجذر الشعبي "زهى" الذي يدل على البهجة والزينة. وهذا الاسم يعبّر عن شخصية توصف بأنها فاتنة، مرحة، محبّة للعطور، للرقص، وللون البنفسجي، وهي أيضاً غيورة، حساسة، وتُقال عنها حكايات كثيرة لا تخلو من الطرافة والرعب، ويُلجأ لها دورها في طلب ثلاثة أمور : الإستشفاء (خصوصاُ من المس) ،والحماية والإنتقام، لكن في ميزان العقيدة، هذه المظاهر تُعتبر وهماً خطيراً، لأن التوكل على غير الله في جلب النفع أو دفع الضر شرك محذَّر منه.
جنية تُستدعى للإستشفاء
يرى كثيرون في مليكة روحاً شافية، خاصةً لمن يعانون من أعراض غامضة أو يُعتقد أنهم تحت "المسّ". إليك بعض القصص التي تُنسب لها :
- طالبة من فاس شعرت بألم حاد ونوبات غريبة، حتى ظهرت لها امرأة متشحة بالبياض في رؤيا، لمست رأسها وقالت: "اذهبي إلى لالة مليكة"، فاختفى الألم مباشرة.
- امرأة عاقر من الجزائر طُلب منها ذبح كبش أشقر على باب منزلها وذكر اسم مليكة تودداً… فأنجبت بعد أسابيع.
- راعي غنم صادف امرأة غريبة في الخلاء، ثم مرض فجأة، ولم يُشفَ حتى ذبح ديكاً أسود قرب مزار يُعتقد أنه تابع لها.
كما يروي بعض الرقاة والشوافات أن مليكة تتحدث على ألسنة الممسوسين. ففي إحدى الجلسات بمراكش، نطقت جنية باسمها على لسان شاب، وطلبت شمعة وطيباً عند ضريح، ثم انسحبت منه بعد تلبية الشرط.
يرى بعض الناس أن مليكة تحمي من يتقربون إليها، وتمنحهم راحة نفسية، وتُبعد عنهم الأذى. تُقدَّم لها الشموع والبخور البنفسجي، وتُزار مقامات يُقال إنها مأوى أرواح مثلها، أبرزها مقام "مرشيش" قرب مكناس، الذي يُعتقد أنه مسكن "الزهوانيات" من الجن.
جنية قد تنتقم أحياناً
الأسطورة تحذّر من خيانة مليكة أو نسيان عهدها. يُقال إنها تغضب بسرعة، وتؤذي من يُهينها، وقد تُسبب له النحس أو الكوابيس أو حتى فقدان السيطرة على نفسه. ويُحكى أن بعض السحرة يسخّرونها، لكن أغلب الروايات تؤكد أنها تُنصف نفسها بنفسها، ولا تُستعبد أو تُباع.
شهادات شعبية
وبغض النظر عن مدى دقة هذه الروايات، فإن أصحابها مقتنعون بحقيقة ما جرى، ويعتبرون أن ما حدث تأكيدٌ على وجود لالة مليكة، وهذا أمر نجده في وسائل التواصل الإجتماعي إذ كتب أحدهم : "بالأمس استمعتُ إلى أناشيد عيساوة خاصة بمليكة الزهوانية، فأُصبت بنوبة ضحك هستيرية "، معتبرًا ذلك أثراً مباشراً لحضور روحها.
هذه الشهادات - سواء صدقها الناس أم لا - تُظهر إلى أي حد تتداخل الأسطورة مع الواقع في المجتمعات التقليدية. فلالة مليكة، بالنسبة للكثيرين، حقيقة يومية تُفسّر بها أمور غامضة: الكوابيس، الأعطال، النحس، وحتى المشاعر المباغتة من الفرح أو الرعب.
حضورها في الفن
أغنية الداودية
- انتقلت لالة مليكة من طقوس الزوايا إلى الأغنية الشعبية" تعني أن هذه الجنية، التي كانت تُذكر في نطاق الطقوس الروحية التقليدية مثل الحضرات الصوفية وجلسات الزار، أصبح اسمها وحضورها جزءًا من الثقافة الشعبية اليومية، لا سيما في الأغاني الفولكلورية.
مثال على ذلك أغنية أصدرتها الفنانة المغربية "الداودية" بعنوان "لالة مليكة"، وقد لاقت رواجًا واسعًا في الأعراس والحفلات، إلى درجة أن البعض بدأ يربطها بشكل فكاهي – وأحيانًا بجدية – بحضور الجنية الأسطورية. فصار يُقال ساخرًا أو تحذيرياً:
"غادي تستدعيها إذا غنيتيها ! "
أي: "ستجلبين حضورها إذا غنيت هذه الأغنية ! "
هذه المزحة المتداولة تُظهر كيف تحوّل الاعتقاد الشعبي من طقس روحي إلى رمز ثقافي، مازجاً بين الخرافة والفن، وناقلاً الأسطورة إلى جمهور أوسع خارج نطاق الزوايا والرقاة.
مسلسل التابعة
ظهرت لالة مليكة بشكل غير مباشر في المسلسل الجزائري "التابعة"، الذي عُرض في رمضان 2025 على قناة النهار. تدور أحداث المسلسل حول فتاة تُدعى ياقوت، تعود إلى قريتها بعد سنوات من الغياب، مدفوعة برغبة في الانتقام ممن دمروا حياتها. وخلال رحلتها، تدخل في دوامة من السحر والشعوذة، وتقيم "عهدًا" مع روح أنثوية غامضة ترافقها وتمنحها قوة ونفوذًا غير طبيعيين.
ورغم أن اسم "لالة مليكة" لم يُذكر صراحة في المسلسل، إلا أن الإيحاءات الرمزية كانت واضحة: الروح أنثى، قوية، حساسة، تظهر في الرؤى، وتطلب قرابين على شكل شموع وعطور، وتحب اللون البنفسجي. كل هذه العناصر تُطابق تمامًا الصفات المنسوبة إلى مليكة الزهواني في الفولكلور المغاربي.
كما أن بطلة العمل تبدأ بتغيّر ملامحها وسلوكها تدريجيًا، وتعيش حالات من النشوة، الضحك الهستيري، والمزاج المتقلب، وهي علامات معروفة بين المعتقدين بأنها دليل على "الجدبة" أو المسّ الروحي.
حاز المسلسل على اهتمام واسع بسبب جرأته في الاقتراب من المعتقدات الشعبية المرتبطة بالجن والغيبيات، وأثار جدلًا بين من رأى فيه معالجة فنية ذكية للواقع، ومن اعتبره تطبيعاً مع مفاهيم تُخالف الدين والعقل.
موقف الإسلام من هذه المعتقدات
من منظور إسلامي، اللجوء إلى الجن شرك بالله، حتى وإن حصل الشفاء أو راحة البال. قال تعالى:
"وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا" (الجن: 6)
وطلب العون من كيان غيبي لا يُرى ولا يُعرف، سواء سمّيناه لالة مليكة أو غيرها، باب من أبواب الابتلاء العقدي. الدين يعلّمنا أن الشفاء والحماية والرزق بيد الله وحده، ولا شفاعة لأرواح الجن أو وعودهم في ذلك.
وفي الختام
لالة مليكة الزهواني، عند البعض، ليست أسطورة بل واقع يعيش معهم، يتجلى في الأحلام، في الأحاسيس، وفي الطقوس. وبينما يرى فيها الناس ترياقاً لمآسيهم، يراها الدين فتنةً يجب الحذر منها.
لالة مليكة الزهواني، عند البعض، ليست أسطورة بل واقع يعيش معهم، يتجلى في الأحلام، في الأحاسيس، وفي الطقوس. وبينما يرى فيها الناس ترياقاً لمآسيهم، يراها الدين فتنةً يجب الحذر منها.
فكلما ضاقت بك السبل، تذكّر أن ما عند الله لا يُطلب من غيره…
وأن الطريق إلى النور، لا يمرّ عبر العتمة.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .